تمهيد
تركز معظم البحوث والأدبيات العلمية المتراكمة في مجاليّ التربية الإعلامية والتعليم الإعلامي على الدور التربوي-التعليمي الذي يمكن أن تؤديه وسائل الإعلام في المجتمع. وقد ارتبطت البحوث العلمية في هذا المجال –في بدايتها- بكيفية تسخير منظومة وسائل الإعلام لخدمة مناهج التربية والتعليم ودعمها. غير أن جملة من المعوقات المنهجية والتطبيقية ما زالت تطرح نفسها حول كيفية استخدام وسائل الإعلام في العملية التربوية، وحول ضرورة إعادة النظر في حدود الدور الوظيفي لوسائل الإعلام في عمليتي التربية والتعليم، وذلك نظرا للتغيرات والتطورات التكنولوجية التي يشهدها الاتصال الجماهيري بوجه عام منذ بداية هذه الألفية.
وقد شهدت السنوات الأخيرة تحولا في التفكير من التربية بوسائل الاعلام والاتصال، إلى التربية على وسائل الاعلام والاتصال، وذلك في ظل إعلام أحكم سيطرته على العالم، مسلياً ومربياً وموجهاً. وأصبحت التربية على حسن استغلال وسائل الإعلام التقليدية والجديدة، تشكل محور اهتمام عديد المؤسسات البحثية والإعلامية والتربوية والمنظمات المجتمعية الوطنية والإقليمية والدولية، في محاولة لفهم وتحليل الأثر العميق لوسائل الاعلام والاتصال في عصر الرقمنة والشبكات المتعددة. وعلى الرغم من تعدد التعريفات نتيجة تنوع المقاربات الفكرية، إلا أن أغلبها يتفق على أن التربية الإعلامية تعني تعزيز قدرات الجمهور ومهاراته في فهم المادة الإعلامية وانتقائها والتعامل معها بصورة فعالة.
في نفس المستوى من الأهمية، وفي ظل بيئة إعلامية تتسم بالتحول والتجدد المستمر، وإيمانا منها بأهمية التعليم وأدواره في تطوير مستوى المضامين الإعلامية، تولي المؤسسات الأكاديمية اهتماما كبيرا لقضايا التعليم والتدريب الإعلامي ومستجداته، ومراجعة منظومة التكوين الإعلامي بشقيها الأكاديمي والمهني. ويمثل موضوع التعليم والتأهيل الإعلامي قضية محورية على جانب كبير من الأهمية لدى مدارس التعليم الإعلامي في العالم. حيث اتخذت هذه المدراس، وبشكل تقليدي، مسارين أساسيين لها: تمثل الأول في الاتجاه ناحية التعليم الإعلامي العام الذي يتناول الأطر النظرية والفلسفية المنظمة للعمل الإعلامي، والمهارات الأساسية اللازمة للمشتغلين في هذا المجال، ويمكن القول إن مدراس التعليم الإعلامي في العالم العربي تمثل هذا الاتجاه بشكل كبير؛ بينما ذهب الاتجاه الثاني إلى تأهيل نوعي يأخذ بعين الاعتبار المهارات المطلوبة لكل مجال من مجالات العمل الإعلامي، مع ربطها بمعارف وعلوم عامة ومتعددة، ومثلت مدارس التعليم الإعلامي في الكثير من الدول الغربية وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية المثال الأبرز على هذا الاتجاه.
وبعد انطلاق الثورة التكنولوجية والاتصالية في منتصف القرن العشرين، بدأت مدارس التعليم الإعلامي تعيد النظر في هذه التوجهات مرة أخرى. حيث أفرزت هذه الثورة وسائل وممارسات وأنشطة وتأثيرات اتصالية مختلفة ومتنوعة. ومن هذا المنطلق، لا يمكن لمؤسسات التعليم والتأهيل الإعلامي تجاهل كل هذه التغيرات ومواصلة مناهجها الدراسية بذات الاتجاهات والقواعد التي كانت عليها قبل انطلاق الثورة التكنولوجية والاتصالية. واليوم تُطرح، في هذا المجال، أسئلة جوهرية تتعلق بمناهج التعليم الإعلامي، ونظرياته، وطبيعة المشتغلين والمهتمين به، وكذلك شكل المؤسسات الإعلامية مستقبلا، ونوع ومحتوى الرسالة الإعلامية المقدمة للجمهور، وغيرها من الأسئلة المهمة. أما السؤال الذي يبقى أكثر أهمية فهو: هل تستوعب مؤسسات ومدارس التعليم الإعلامي في العالم اليوم كل هذه التغيرات؟ وما هي مبادراتها العلمية والعملية في سبيل استيعاب هذه التغيرات؟