web bannar arabic معدل



تمهيد

شغلت قضية التَّنمية عقول المخططين من سياسيّين واقتصاديّين ومفكرين قرونا ممتدة. وقد طرح ابن خلدون منذ القرن الرابع عشر فكرة «العمران البشريّ» التي تطورت في منتصف القرن العشرين إلى مفهوم التنمية المستدامة، وبدأ يترسخ تدريجيّا حتى أضحى سياسة في القرن الواحد والعشرين تتطلع إلى بناء أنموذج جديد للمجتمع والاقتصاد والبيئة تنشده البشريّة جمعاء.

كانت التَّنمية المستدامة في الأصل مفهومًا عامًا لمجموعة متناسقة من السياسات صِيغت لتأكيد أهمّية الاستخدام الرشيد للموارد الطبيعيّة في تلبية الاحتياجات البشريّة الأساسيّة وتعزيز التَّنمية الاقتصاديّة التي تراعي سلامة البيئة. واليوم، لا يزال المفهوم يستخدم على نطاق واسع في كل من دوائر وضع السياسات والتعاون الدوليّ؛ حيث يمتد نطاقه الآن إلى ما وراء القضايا البيئيّة.

وفي الوقت الذي أدركت فيه الليبراليّة الجديدة أهمّية الرأسمال الاجتماعيّ ودوره في خلق الثروة، دافعت منظمات دوليّة كثيرة وفي مقدمتها الأمم المتحدة عن مشروع التَّنمية المستدامة وحق الإنسان في الحياة الكريمة، فأنشأت برامج إنمائيّة ومجالس متخصصة، و كتبت التقارير، ونظمت الندوات والمؤتمرات على المستويات المحلية والإقليميّة والدوليّة؛ الأمر الذي أدى إلى إضفاء ديناميكيّة على مشروع التَّنمية المستدامة، وتجدده المستمر وتحوله إلى مقاربة عالميّة تشمل مناحي الحياة جميعها.

وعلى الرغم من كل الجهود المبذولة في سبيل تحقيق التَّنمية المستدامة على المستويات الوطنيّة والدوليّة، فلا تزال البشريّة تواجه في مناطق مختلفة من المعمورة تحدّيات كبيرة؛ لعل في مقدمتها النمو الديمغرافيّ المتزايد، وشح الموارد الطبيعيّة، والتوزيع غير العادل للثروات، والتنافس غير المتكافئ بين الدول، مما أدى إلى زيادة الفقر وتفشي الجهل والأميّة، وكثرة الحروب والمجاعات، وانتشار التطرف والعنف؛ وهي مخاطر تهدّد بحد ذاتها العمران البشريّ.

ومن أجل مواجهة هذه التحديات الكبيرة وتحقيق التَّنمية المستدامة، تحتاج البشريّة إلى نهضة علميّة وفكريّة تشمل من دون استثناء مجالات المعرفة الإنسانيّة ومحاورها جميعًا؛ إذ تؤدي هذه النهضة إلى إنتاج المعرفة وصناعتها، ثم نقلها وتداولها، مع ضرورة تحولها إلى فعل إنسانيّ شامل. وينبغي عند التفكير في هذه النهضة العلميّة والفكريّة إعادة النظر في مكانة العلوم والمعارف الانسانيّة المختلفة؛ بحيث لا يصبح بعضها «نخبويّا» فقط، وبعضها الآخر غارقا في التجربة والتطبيق، وألّا يتعامل معها على أنّها مطارحة فلسفيّة فقط، والأخرى ميكانيكيّة وآليّة مجردة. وتحتم مثل هذه التحدّيات على البحوث الاجتماعيّة تحديث موضوعاتها وتطوير مناهجها وتنويع أدواتها؛ لكي تتمكن من مواجهة تلك التحدّيات، وتقديم الإجابات عن الأسئلة المطروحة، والمشكلات التي تعترض مستقبل البشريّة، وتوفير الشروط الموضوعيّة للإقلاع الحضاريّ، والانتقال من طور التكديس إلى طور البناء.

واجهت العلوم الاجتماعيّة ولا تزال تحديّات ورهانات صعبة في طرح بدائل علميّة وعمليّة من أجل تحقيق التَّنمية المستدامة التي يتطلع إليها الأفراد والشعوب والدول على السواء، ولا سيّما أنّ التحولات الاجتماعيّة والتغيرات في القيم تؤثر تأثيرًا مباشرًا في إنجاز مشروع التَّنمية المستدامة؛ مما يستدعي تشخصيها ودراستها وتقويمها باستمرار. 

لقد عانت العلوم الاجتماعيّة والآداب والثقافة بشكل عام ولا تزال من نظرة قاصرة لدى بعض القائمين على التخطيط ورسم السياسات الإنمائيّة ووضع البرامج؛ لاعتقادهم بأنّ التَّنمية المستدامة مرتبطة فقط بمؤشرات النمو الكميّة، وكأنها معزولة تماما عن أيّ فكر فلسفيّ، أو مقاربة منهجيّة، أو فعل إنسانيّ خالص. وفي الوقت ذاته لا يمكن تجاهل ما يتحمله الفلاسفة والمنظرون للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة والمهتمون بالآداب واللغات والدراسات الثقافيّة من مسؤوليّات عندما قصّروا في مواكبة التطورات المجتمعيّة المتتابعة، ولم يطوّروا نظريّات وأفكار تفسر تلك التغيرات، وركن بعضهم إلى الاستمرار في تدريس العلوم الاجتماعيّة والبحث فيها بالطرائق والأساليب التقليديّة دون أخذ التطورات المجتمعيّة المتلاحقة في الاعتبار والحسبان.

يشهد العالم في السنوات الأخيرة عمليّة تآكل متواصلة لمكانة العلوم الاجتماعيّة ودورها في تحقيق التَّنمية المستدامة؛ على الرغم من دور هذه العلوم ومنزلتها في فهم المجتمعات المعاصرة ودراسة مشكلاتها ومواجهة تحدياتها على الأصعدة السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة والبيئيّة كافة؛ وذلك لأهمية تلك العلوم في تعميق الوعي النقديّ لفهم أبعاد التَّنمية الاجتماعيّة الثقافيّة وكيفية استدامتها.

ومن أجل ذلك كلّه يتطلّع المؤتمر الرابع لكليّة الآداب والعلوم الاجتماعيّة بجامعة السلطان قابوس إلى بحث مكانة العلوم الاجتماعيّة وأدوارها في تحقيق التَّنمية المستدامة، والتحدّيات التي تواجه تلك العلوم في سبيل دعم التَّنمية المستدامة وتعزيزها، وتقديم تقييم نقديّ للتجارب التي تحققت في هذا المجال وطنيّا (التجربة العمانيّة) وإقليميّا ودوليّا، واستخلاص النتائج والدروس المستفادة من تلك التجارب لطرح البدائل الممكنة.